بين سينما حقبة الخمسينيات والستّينيات في بيروت، وسينما اليوم، فاصل زمني من الصالات «المخربشة» التي قادتها «سلوى» بجدارة. أجيال مرّت من هناك، في الأقبية المظلمة، وعاشت طقوساً من التصفيق والانفعال وعيش الدور... و«التحرّش». حدث ذلك قبل زمن الستالايت والإنترنت، قبل الخلوي، يوم كانت الأشياء مختلفة
تجده عند المدخل، دائماً، إما جالساً على كرسي وإما واقفاً يتفتّل. يوزّع نظراته على المارّة، يمنى ويسرى، ثم يُنادي: «السكسي بلّش.. يلّا السكسي بلّش». من عاش في بيروت، خلال سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، ومرّ أمام سينما سلوى في منطقة البربير، فلا بد أنه رأى ذاك الرجل وسمعه. هو شخص نمطي، يمكن أن تتغيّر الأسماء، بين عام وآخر، لكن الثابت فيه هو الصدح بعبارة «السكسي بلّش». لا إمكان لتوظيفه، ردّاحاً، إلا مع قدرته على إطلاق تلك العبارة بصوت عالٍ، بلا خجل، بلا تردّد، مع فائق الثقة. لم تكن الإدارة في سينما سلوى تشترط في الموظف، بهذه المهمّة، أن يُجيد اللغة الإنكليزية، باستثناء كلمة «سكسي».
سلوى، السينما الرابضة على جزء من ذاكرة العاصمة، لم يبق منها اليوم سوى واجهة بالية، وصالة خربة، وبعض الأشخاص عند مدخلها ينشطون في «الممنوع». في ما مضى، حتى خلال حقبة الحرب الأهلية، كانت السينما لا تزال تقدّم بعض الأفلام المقبولة فنيّاً، قبل أن يتدهور مستواها إلى أفلام «الإيروتيك» ذي النسخة الرديئة. باتت في آخر أيامها لا تعتمد إلا على زبائن «الكبت»... من مختلف الأعمار. لم تكن «سلوى» حالة فريدة، وإن كان لها «وسام الصمود» لأطول مدّة ممكنة بين أخواتها، إذ كانت تنشط إلى جانبها، في المجال عينه صالات أخرى. «عايدة» (الزيدانية) و«بيروت» (في البربير) «عمر الخيّام» و«أورلي» (في الحمرا)... وغيرها في مناطق أخرى.
قبل نحو 18 عاماً، كان محمد يخرج من المنزل صباحاً، وفي يقين أهله أنه يذهب إلى المدرسة، في حين كان يقضي يومه الدراسي في سينما سلوى. في البداية كان يفعلها مرّة في الشهر،
وعندما يسأله ناظر المدرسة عن سبب تغيّبه، يجيب: «كنت مريضاً». لاحقاً قرّر المواجهة، فلم يعد يذهب إلى المدرسة بالمرّة، ظل لنحو شهر متواصل يقضي نهاراته في «قبو سلوى» المظلم. لم يكن ليُكشف أمره، ويعود إلى المدرسة، لولا أن مرّ والده ذات يوم صدفة لأخذه إلى المنزل، فأخبروه هناك أن ابنه غائب منذ أسابيع. إلى هنا كان الفتى قد «تخرّج» من سلوى بشهادة متسكّع.
كانت سلوى، والصالات الأخرى، في تلك الحقبة تُقدّم 4 أفلام متتالية، في عرض متواصل، بفاصل دقائق قليلة بين فيلم وآخر. غالباً ما يكون الفيلم الأول أميركياً حربياً (أكشن). أثناء عرض هذا الفيلم، تحديداً، كان الروّاد يتفاعلون مع الأحداث، فيصفّقون للبطل عند ظهوره ويصفّرون تشجيعاً، ثم يشتمون الشخصية الشريرة بأقسى الألفاظ، يغضبون ويفرحون وربما يبكون، كأنهم في قلب المشهد. كان هذا السلوك يعدّ استمراراً لتقليد قديم بين روّاد دور السينما في لبنان، تحديداً خلال حقبة الخمسينيات والستينيات في ساحة البرج - وسط بيروت، داخل سينما «ريفولي» أو «غومون بالاس» على سبيل المثال. الفيلم الثاني كان «كاراتيه» صينية ويابانية. أفلام الفنون القتالية، أو قتال الشوارع. هذه الأفلام التي سيطرت لسنوات طوال على الكثير من دور السينما في لبنان، وعلى المزاج الشبابي عموماً، وإلى اليوم قلّما تجد من عاش تلك الحقبة ولم يسمع بـ«بروس لي» أو «جاكي شان». أما الفيلم الثالث، فتارة يكون عربياً، أكثر المرّات لعادل إمام وسعيد صالح، وأحياناً أفلام أكثر قدماً، لفاتن حمامة مثلاً. إن لم يكن الفيلم عربياً، فسيكون هندياً، من بطولة أميتابتشان. أسماء الأفلام الهندية وصور أبطالها، التي كانت تُرفع على مداخل تلك الدور في بيروت، هي حكاية وحدها... دائماً القصّة تدور حول انفصال الابن عن أمه في صغره، ثم رحلة بحثه عنها في كبره، أو رواية انتقام وثأر ويتم وبؤس... يعني في النهاية هو فيلم هندي.
وأخيراً، يأتي الفيلم الرابع. الفيلم الذي من أجله كان يحضر «المكبوتون» و«هواة الصنف» من كل حدب وصوب. تجد البعض يقول، اليوم، إن تلك الدور كانت تعرض أفلام «البورنو». لكن في الواقع هذا غير صحيح، فتلك الأفلام كانت، في أكثر حالتها إباحة، من نوع «الإيروتيك» الإيطالي والفرنسي، بنسخات قديمة، لا تبارح «الخربشة» و«التقطيش» الشاشة خلال فترة عرضها. لم يكن الإنترنت آنذاك قد ظهر بعد، ولا حتى الستالايت، وبالتالي كان كل مشهد يظهر فيه نصف جسد عار يُعد بمثابة الكنز الثمين. نحو 20 صالة سينما، ضمن بيروت وضواحيها، استمرت حتى السنوات الأخيرة في هذه العروض (بعضها كان في الضاحية الجنوبية - سينما بالاس وسينما راديو). تلك الدور لم تكن تحوي أكثر من صالة واحدة، عكس الدور الحديثة، التي سيطرت على «المصلحة» خلال العقدين الأخيرين، والتي تجد في بعضها اليوم ثماني صالات منفردة وداخل واحدة منها يُعرض فيلم مختلف عن الآخر.
«تفضّل ولّع». عبارة لا يزال محمد يذكرها، سمعها لأول مرة من رجل خمسيني، داخل سينما سلوى. يأتي ويجلس جنبه، يخرج علبة السجائر، ويعرّض على الفتى التدخين (في تلك السينمات كان التدخين مسموحاً). «تفضّل ولع» كانت، كما سيكتشف الفتى لاحقاً، هي العبارة السحرية التي تسبق عملية التحرّش. غالباً ما كان يقع هذا الفاصل أثناء فيلم «السكسي» (كما يقولون - أو فيلم الرعب كما يحلو لهم أن يُشفّروه). كثيرة هي عمليات التحرّش التي شهدتها تلك الدور، والتي ظلّت كذلك حتى الأمس القريب، وكثيرون هم الذين أوقفتهم «شرطة الآداب». لو أراد البعض أن يذكر كل «الحركات القرعة» التي كانت تحصل لاحتاج الأمر إلى مجلدات. ضابط سابق يتذكّر، عن مرحلة التسعينيات تحديداً، كيف كانت دوريات الدهم توقف بعض «أصحاب الحركات» قبل أن يعود القضاء، بعد وساطات من نافذين، ويطلق سراحهم. يعود بذاكرته إلى حادثة دهم، طاولت سينما عمر الخيّام في منطقة الحمرا، بعدما نجح أصحابها بالحصول إلى إذن «فض أختام». دخل رجال الأمن إلى غرفة العرض، فلم يجدوا «البكرة» ولا آلة الضوء، وبعد بحث تبيّن لهم أن الآلات وضعت خارج السينما وربطت بأسلاك إلى داخلها. آنذاك لم تكن السينما قد استمرت بعرض الأفلام المنوّعة، بل اكتفت بـ«السكسي» وبكل ما يحمله معه من «طقوس الراحة» داخل الصالة. تلك الصالات أصبحت، خلال السنوات الأخيرة التي سبقت موتها، أشبه بمواخير مظلمة، روائحها لا تُطاق، وكراسيها شبه مخلّعة وزبائنها غالباً من الوافدين. لكن، رغم كل شيء، حافظت على تقليد قديم، من حقبة صالات الخمسينيات، إذ يجول فتى في القاعة حاملاً بين يديه صندوقاً يحوي بعض الأطعمة والأشربة، مردداً النداء الشهير: «بيبسي ميرندا كولا بارد». الكلمة الأخيرة لا بد من مدّها لتكون على الأصول، فتُصبح «بيرييييد».
سينما سلوى، آخر قلاع الأفلام «المخربشة» في بيروت، تلفظ اليوم آخر أنفاسها. رسمياً يفترض أنها لا تعرض الأفلام، بعد أمر قضائي، وبعد توقيفات للقيمين عليها قبل نحو 5 سنوات، إلا أن ثمّة ما يشير إلى استمرار «حركات النص كم» داخل صالتها إلى اليوم. قبل أيام مررنا من هناك، في الشارع الذي فيه آخر بائعي «رأس النيفا» في العاصمة، الشارع الذي شهد إطلاق نار على شبّان كانوا أمام السينما في اليوم الأول للحرب الأهلية عام 1975. ذاك الشارع، الذي يُعدّ إدارياً ضمن منطقة الحرش، كانت محطة «الترومواي» قبل عقود من الزمن تقع فيه، قبالة «سلوى» تحديداً. أحد الشبان عند مدخل السينما يدلّنا على شقيق صاحب «سلوى». نسأله إن كان بالإمكان الحديث معه عن التاريخ، الذي نعرفه، فيجيبنا: «قحّط من هون!». ماذا؟ ها هو يُكرر بغضب: «ألم تفهم! زحّط من هون». وهكذا، لم يكن أمامنا إلا «التزحيط» مبتسمين، بعدما «زحطت» سينما سلوى، وأخواتها، من حاضر بيروت... وأصبحت ذكرى من الماضي.